الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل المجتمعات في كل أنحاء العالم، لكن تطوره اليوم موجه من قبل الاحتكارات الرأسمالية.
من منظور يساري، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون اداة مساهمةمن أجل المساواة والديمقراطية والتحرر.
الرؤية التقدمية تضع الذكاء الاصطناعي كملكية جماعية، تُدار بشفافية وتخدم حاجات الناس.
هذا المقال يستكشف كيف يمكن لليسار الرقمي أن يعيد تعريف الذكاء الاصطناعي كمشروع تحرري يخدم البشرية جمعاء.
فتحت التطورات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي آفاقًا هائلة لتطبيقاته في مختلف المجالات، لكنها أثارت أيضًا مخاوف بشأن كيفية توجيه هذه التكنولوجيا. ومع ذلك، من منظور اليسار الالكتروني، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة ثورية تُسهم في إعادة هيكلة المجتمع لتحقيق مزيد من العدالة والمساواة. تهدف هذه الرؤية إلى تحرير الذكاء الاصطناعي من قيود السوق الرأسمالية وتوجيهه لخدمة الإنسانية جمعاء، من خلال تحويله إلى وسيلة لتحسين جودة الحياة، وتحرير البشر من أعباء العمل الروتيني، وتعزيز الإبداع البشري في كافة المجالات.
لقد أصبح من الممكن فعليًا، ومن الممكن لأول مرة في التاريخ، إنتاج حاجات غالبية السكان بجهد بشري ضئيل، وتوفير سلع وخدمات، ومعرفة بشكل وفير ومجاني أحيانًا، دون الحاجة إلى العمل المأجور المكثف أو إلى الهياكل البيروقراطية التقليدية. ومع ذلك، فإن هذه الإمكانيات تُقيّد وتُستخدم لتعزيز الربح، وتقليص الأجور، وتعميق الهيمنة الطبقية والفكرية، لا لتحرير البشر من الاستغلال. إن الذكاء الاصطناعي اليوم لا يمثل فقط أداة جديدة بيد رأس المال، بل هو في جوهره تعبير عن تحول نوعي في طبيعة الإنتاج، وعن انكشاف الحدود البنيوية للرأسمالية نفسها. فالعديد من التطبيقات والمنصات الرقمية من الطباعة ثلاثية الأبعاد إلى الأنظمة التعاونية والإنتاج المنزلي، إلى الأتمتة الواسعة ونزع الوساطة الرأسمالية في بعض المجالات تُظهر أن المجتمع بات يمتلك فعليًا الأدوات التي من الممكن تسمح بإعادة تنظيم الاقتصاد بطريقة اشتراكية أفقية، تشاركية، ومجتمعية. ولكن هذا التحول يظل مكبلاً، ومختنقًا، بفعل البنية الاحتكارية التي تسيطر على التكنولوجيا وتوجهها نحو تعظيم الأرباح لا نحو تعميم الفائدة للمجتمع.
في الفقرات التالية، نستعرض كيف يمكن للرؤية اليسارية – الاشتراكية لليسار الإلكتروني أن تُعيد تعريف الذكاء الاصطناعي ليصبح قوة محرِّرة تخدم القيم الإنسانية والتقدمية. ومع ذلك، تظل هذه الأفكار والمقترحات مجرد رؤوس أقلام للحوار الجماعي داخل صفوف اليسار، إذ إن طرح بديل كهذا يتطلب نقاشات موسعة بين التنظيمات والحركات والشخصيات اليسارية والتقدمية في كافة البلدان. وإذ أطرح هذه الأفكار، فإن الهدف ليس تقديم حلول جاهزة، بل فتح النقاش حول الأولويات المطروحة، والتي يجب أن تُشكّل دعوة مفتوحة للمساهمة في تطوير رؤية يسارية رقمية قائمة على الملكية الجماعية للذكاء الاصطناعي بشكل خاص، وللتكنولوجيا بشكل عام، من خلال جهد يساري جماعي منظم وعلى نطاق عالمي.
1. تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي يسارية أو محايدة ومفتوحة المصدر
الآن، كحلٍّ ممكن، يُعدّ تطوير أنظمة محايدة، ديمقراطية، ومفتوحة المصدر أحد الأساليب الأساسية لمواجهة هيمنة الدول والشركات الكبرى على الذكاء الاصطناعي. يجب أن تُدار هذه الأنظمة بشفافية واستقلالية، وبعيدًا قدر الإمكان عن مصالح رأس المال الاحتكاري، لضمان استخدامها في خدمة الجماهير. يتطلب تحقيق ذلك جهدًا وتنسيقًا جماعيًا من التنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية حول العالم، من أجل الضغط والعمل لضمان أن تصبح التكنولوجيا أداة لتعزيز الديمقراطية، الحريات، والمساواة إلى أقصى حدٍّ ممكن في ظل التوازنات الطبقية الحالية.
توفر الأنظمة مفتوحة المصدر فرصة للجماهير والتنظيمات اليسارية والتقدمية للمشاركة في تطوير التكنولوجيا بطرق تعكس قيمها، حيث يُتاح لأي فرد أو مجموعة الوصول إلى الأكواد البرمجية، والاطلاع على آلية عملها، وتعديلها وتطويرها بحرية. يمكن لهذا النهج أن يُعزز الملكية والابتكار الجماعي، ويدعم الشفافية، ويفكك جزئيًا وبشكل محدود سيطرة الدول والشركات الاحتكارية. كما يسهم انفتاح هذه الأنظمة على المراجعة العلنية في تقليل مخاطر التلاعب والتوجيه الأيديولوجي الخفي، مما من الممكن ان يجعلها أكثر موثوقية واستقلالية عن المصالح الرأسمالية الضيقة، ويشكل ضمانة لحماية البيانات واحترام الخصوصية. فمن خلال إمكانية مراجعة الأكواد البرمجية، يمكن الحد من التلاعب الخفي أو تضمين تحيزات تخدم مصالح الطبقات المسيطرة. إن تعزيز الشفافية والثقة في الذكاء الاصطناعي يُعد خطوة أولية مؤثرة نحو تحويل التكنولوجيا إلى أداة تحررية.
والحل المطلوب، الذي يجب أن نناضل من أجله على المدى البعيد، يكمن في أن تعمل التنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية، وبتنسيق عالمي، على تطوير وطرح بدائل يسارية وتطبيقات تقدمية وشفافة للذكاء الاصطناعي، تضمن أن تكون التكنولوجيا ملكية جماعية، خاضعة لإشراف وتوجيه جماهيري كامل، وموجهة نحو احترام حقوق الإنسان، المساواة، والقيم الديمقراطية، واحترام التعددية الفكرية. فبدلاً من أن يظل الذكاء الاصطناعي حكرًا على الدول الغنية والشركات الاحتكارية الكبرى، يجب أن يتحول إلى أداة جماهيرية تقدمية تُساهم في حل المشكلات العالمية والمحلية، مثل مكافحة الفقر والاستغلال، تحقيق المساواة والعدالة وتعزيز الديمقراطية، مواجهة التغير المناخي، وتطوير أنظمة تعليمية وصحية أكثر شمولًا وعدالة، بالإضافة إلى معالجة القضايا الاخرى المهمة التي تواجه البشرية جمعاء. بهذا الشكل، يتحول الذكاء الاصطناعي إلى مشروع تحرري عالمي، يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا وفق قيم الاشتراكية، مما يفتح المجال أمام نموذج جديد يضع التكنولوجيا في خدمة الإنسان.
إلى أن يتحقق نموذجٌ يساريٌّ تقدميٌّ للذكاء الاصطناعي، ينبغي إخضاع التكنولوجيا الحالية لإشرافٍ قانونيٍّ وحقوقيٍّ دوليٍّ مستقل، لضمان الشفافية والعدالة في استخدامها. يمكن لهذا الإشراف أن يحدَّ من التلاعب الرأسمالي بالتكنولوجيا، أو على الأقل تأطيره كخطوةٍ أولية، بما يضمن توجيهها لخدمة عموم الجماهير ضمن ضوابط ملائمة.
2. أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز المساواة في سوق العمل
يمكن للذكاء الاصطناعي، إذا تم توجيهه بشكل اشتراكي - يساري تقدمي، أن يكون أداة مساعدة قوية لتحرير البشر ولتحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال تحليل المشكلات الاجتماعية المعقدة، وتقديم حلول فعالة للحد من التفاوتات الاقتصادية والظلم الطبقي. لكن تحقيق هذا الهدف لا يتم تلقائيًا، بل يتطلب توجيه الياته وقدراته نحو معالجة جذور الفقر، البطالة، نقص الخدمات الأساسية، والتمييز الاجتماعي، بحيث يُستخدم في خدمة الجماهير.
يمكن للذكاء الاصطناعي ايضا أن يسهم في رصد هذه التفاوتات عبر أنظمة تحليل بيانات متقدمة، مما يتيح تحديد الفئات الأكثر حرمانًا، وتوجيه سياسات عادلة لمعالجة الاختلالات الهيكلية في توزيع الثروة والخدمات.
في هذا السياق، يمكن للحكومات التقدمية والمؤسسات ذات التوجه اليساري توظيف هذه التقنيات في رسم سياسات وبرامج اقتصادية واجتماعية أكثر عدلًا ومنهجية، باستخدام نماذج بيانات دقيقة تُحدّد الاحتياجات الفعلية للفئات المُهمَّشة، مما يُعزّز تكافؤ الفرص، ويُسهم في الحدّ من التفاوت الطبقي، وفي تحقيق أعلى مستوى ممكن من العدالة الاجتماعية.
يركّز البديل اليساري للذكاء الاصطناعي على جعله أداة لتحرير البشر من الأعباء الروتينية والمرهقة، مع ضمان توفير فرص عمل كريمة ومستقرة وبنفس الأجور. يمكن للاستخدام العادل للأتمتة أن يُقلّل ساعات العمل الإجمالية، مما يمنح الأفراد مزيدًا من الوقت للتطوير الذاتي، والمشاركة المجتمعية، والتمتع بالحياة، بدلًا من إبقائهم في دائرة الاستغلال الرأسمالي المكثف. في هذا النموذج، يتحوّل سوق العمل إلى مساحة أكثر عدالةً وحريةً، حيث يتم القضاء على التمييز الجندري والعرقي والديني والعمري من خلال أنظمة تقييم تعتمد على الكفاءة والمهارات، بعيدًا عن التحيزات الاجتماعية أو الأيديولوجية التي تُعيد إنتاج الهياكل الطبقية القائمة، ويصبح وسيلةً لضمان فرصٍ متساويةٍ للجميع، مع توفير بيئة عمل تُعزّز رفاه شغيلات وشغيلة اليد والفكر.
إضافةً إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداةً قوية لدعم التنظيم العمالي والنضال النقابي، من خلال تطوير تطبيقات تُساعد شغيلات وشغيلة اليد والفكر على بناء نقابات رقمية وشبكات تضامن، وتعزيز قدرتهم على التفاوض مع أرباب العمل، والمطالبة بحقوقهم، وتحسين ظروف العمل.
وأخيرًا، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير برمجيات يمكنها اختراق أنظمة مراكز الانتاج وفرض إضرابات رقمية، من خلال تعطيل أنظمة الإنتاج الخاصة بالشركات والمؤسسات الحكومية التي تستغل حقوق العمال والعاملات وترفض السماح للتنظيمات النقابية بالعمل داخلها، أو الأنظمة الاستبدادية التي لا تقر بحق شغيلات وشغيلة اليد والفكر في التنظيم والإضراب. يُعدّ هذا الحل خيارًا اضطراريًا لفرض قبول هذه الشركات بمنح المزيد من الحقوق لشغيلات وشغيلة اليد والفكر العاملين لديها.
3. الذكاء الاصطناعي كأداة واقعية للتحرر العلمي وتعزيز الإبداع
بدلاً من أن يكون الذكاء الاصطناعي أداة تُضعف القدرات البشرية وتُنتج أجيالًا تعتمد بشكل مفرط على التكنولوجيا، يمكن إعادة توجيهه ليصبح وسيلةً للتحرر العلمي وتعزيز الإبداع. ينبغي ألا يُستخدم الذكاء الاصطناعي ليحلّ محلّ الإنسان بالكامل في التفكير، بل ليُساعده على توسيع قدراته، وتمكينه من الوصول إلى أدوات معرفية متقدمة، وتحرير وقته من المهام الروتينية، مما يمنحه الفرصة للتركيز على الابتكار والعمل الإبداعي.
عوضًا عن تكريس التبعية والاعتماد المفرط عليه، بما في ذلك الوقوع في فخ الإدمان الرقمي، يمكن تصميم الذكاء الاصطناعي ليكون مساعدًا للإنسان وليس بديلاً عنه. يمكن تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تقدمية مفتوحة المصدر تُحفّز التفكير النقدي علميًا وإبداعيًا، من خلال تشجيع المستخدمين على استكشاف المعرفة ذاتيًا عبر طرح أسئلة استفهامية تُحفّزهم على التحليل والاستنتاج، بدلاً من تلقي إجابات جاهزة دون تمحيص. يمكن لهذه الأنظمة تقديم اقتراحات بحثية، وتحليل البيانات لدعم التفكير الاستنتاجي، وتحفيز المستخدمين على بناء أفكار جديدة، بدلًا من الاكتفاء بالاستهلاك السلبي للمعلومات.
يقوم البديل اليساري على توظيف الذكاء الاصطناعي كوسيلة لتعزيز البحث العلمي التعاوني، من خلال إتاحة موارد تحليل البيانات الضخمة مجانًا للعلماء والباحثين المستقلين. يساهم ذلك في تسريع وتيرة الابتكار العلمي في مجالات مثل الطب، وعلاج الأمراض المزمنة والمستعصية، وعلم الاجتماع، والطاقة المتجددة، وحماية البيئة وغيرها.
كما يمكن إنشاء مشاريع ذكاء اصطناعي تعاونية تعتمد على مشاركة شغيلات وشغيلة اليد والفكر، والنساء، والمهندسين والمهندسات، والباحثين والباحثات، والناشطين والناشطات الاجتماعيين، بحيث يتم تسخير التكنولوجيا لخدمة المصالح العامة للجماهير. ومن الضروري العمل على توفير تقنيات الذكاء الاصطناعي كخدمة عامة مجانية بالكامل، تتيح للأفراد الوصول إلى جميع إمكانياتها، سواء الأساسية أو المتقدمة، التي تعزّز الإبداع في مختلف المجالات، دون الحاجة إلى دفع تكاليف باهظة.
4. الرقابة المجتمعية على الذكاء الاصطناعي
يهدف البديل اليساري للذكاء الاصطناعي إلى فرض رقابة مجتمعية شفافة وديمقراطية على التكنولوجيا، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، لضمان استخدامها بعدالة وإنصاف. ولتحقيق رقابة فعالة، يجب إعادة توزيع السلطة الرقمية بحيث تصبح التكنولوجيا مملوكة للمجتمع، تُوظَّف لخدمته بدلًا من استخدامها كأداة احتكارية بيد الشركات الكبرى. يتطلب ذلك تطوير مؤسسات ومنصات تشاركية تتيح للجماهير فرصة الاطلاع على كيفية تصميم وتطبيق الخوارزميات، مما يعزز الشفافية ويمكّن المستخدمين والمستخدمات من فهم تأثير هذه التقنيات في حياتهم اليومية. كما ينبغي إنشاء هيئات رقابية شعبية منتخبة على المستويين المحلي والدولي، تضم تمثيلًا واسعًا يشمل العمال، والأكاديميين، والحقوقيين، والخبراء التقنيين، وغيرهم لضمان الحيادية والعدالة في تطوير وتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي.
بالإضافة إلى ذلك، يجب تشريع قوانين وإصدار إرشادات ملزمة تُلزم المطورين بدمج قيم العدالة والمساواة في مرحلة التصميم، مع فرض مراجعة مجتمعية على جميع الأنظمة قبل تسويقها. وينبغي إلزام الجهات المطوِّرة بتعديل أي أنظمة متحيزة أو إيقافها في حال ثبوت ضررها الاجتماعي، ومنع تسويق أي تقنية لم تخضع لمراجعة دقيقة تضمن عدم إلحاق الأذى بالفئات المهمشة أو تعزيز التمييز الطبقي واللامساواة.
علاوةً على ذلك، ينبغي منح الهيئات الرقابية صلاحيات فعلية لمراجعة الخوارزميات بشكل مستمر، ورصد أي تحيزات مدمجة قد تؤدي إلى التمييز أو الاستغلال. كما يجب أن تمتلك هذه الهيئات القدرة على التدخل وفرض معايير تنظيمية ملزمة، تضمن عدم استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة لتعزيز اللامساواة بجميع أشكالها، أو تكريس الهيمنة الطبقية، كما هو الحال اليوم.
5. إعادة هيكلة الإنتاج والتوزيع باستخدام الذكاء الاصطناعي
إعادة تنظيم الإنتاج والتوزيع تُعدّ أحد الأعمدة الأساسية للرؤية اليسارية للذكاء الاصطناعي، حيث يمكن لهذه التكنولوجيا أن تُستخدم في بناء أنظمة تخطيط مركزي ديمقراطي قائمة على البيانات الدقيقة وذات توجه اشتراكي، مما يسمح بتوجيه الموارد بكفاءة لتلبية الاحتياجات الفعلية للمجتمع، بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية. تعتمد هذه الأنظمة على تحليل دقيق للطلب والاستهلاك، مما يُتيح إنتاج السلع والخدمات الضرورية وفقًا للحاجات الفعلية، مع تجنُّب الإفراط الإنتاجي الذي يُميِّز النظام الرأسمالي. ويمكن لنظام اشتراكي ديمقراطي مدعوم بالذكاء الاصطناعي أن يُحقّق توازنًا بين الإنتاج والاستهلاك، ويُعيد توزيع الموارد بشكل عادل وشامل، لضمان الاستفادة القصوى من الإمكانيات المتاحة.
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورًا حاسمًا في إعادة هيكلة سلاسل التوريد، عبر تقليل الفاقد، وتوجيه الإنتاج نحو المناطق الأكثر احتياجًا، وتعزيز الاستدامة البيئية من خلال الحدّ من استهلاك الطاقة والمواد الخام. كما أن استخدام الأنظمة اللوجستية الذكية يُمكّن من تحقيق توزيع أكثر كفاءة للسلع والخدمات، وتحديد المسارات المثلى لتقليل الانبعاثات الكربونية، مما يضمن وصولها إلى الجميع دون احتكار أو تلاعب بالسوق. إضافةً إلى ذلك، يمكن توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز شفافية عملية الإنتاج والتوزيع، من خلال مراقبة كيفية تخصيص الموارد وتوجيهها بما يتوافق مع الأولويات المجتمعية.
علاوةً على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث تحولًا جذريًا في الإنتاج التعاوني ذي التوجه الاشتراكي، حيث يُمكّن التعاونيات والمشاريع المجتمعية من الاستفادة من التقنيات الذكية لتحسين كفاءة عملياتها، وخفض التكاليف، وضمان توزيع عادل للموارد بين الأعضاء. في هذا السياق، يمكن استخدام التكنولوجيا كأداة لبناء اقتصاد تضامني، يُساعد المجتمعات الفقيرة على تحقيق استقلالها الاقتصادي والسياسي، عبر تعزيز الإنتاج المشترك، وضمان التوزيع العادل للموارد المتاحة، بعيدًا عن سيطرة رأس المال الاحتكاري.
6. الذكاء الاصطناعي لتحقيق العدالة الجندرية
يجب على القوى اليسارية والنسوية والحقوقية أن تناضل من أجل تصميم وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تراعي العدالة الجندرية وتُسهم في تحقيق المساواة الكاملة. ولتحقيق ذلك، لا بد من ضمان تمثيل متوازن للنساء في فرق تطوير التكنولوجيا، حيث يمكن ان يسهم هذا التمثيل في تقليل التحيزات الجندرية المدمجة في الخوارزميات. كما يتطلب الأمر الضغط من أجل سياسات تُلزم الشركات والحكومات بتبني التنوع الجندري في جميع مراحل ومستويات تصميم وتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، والعمل على إزالة الطابع الذكوري الطاغي عليها.
إضافةً إلى ذلك، يجب تدريب الخوارزميات باستخدام بيانات شاملة ومتنوعة تعكس تجارب النساء وأدوارهن بشكل كامل وغير نمطي، مما يساعد في كسر القوالب الجندرية التقليدية التي تكرسها البُنى الذكورية. كما ينبغي الضغط على الحكومات لاعتماد تشريعات تُلزم الشركات بنشر تقارير شفافة عن التنوع الجندري في فرقها التقنية وبرامجها، مع فرض عقوبات وغرامات كبيرة على الجهات التي لا تلتزم بذلك. ويجب أيضًا اعتماد مؤشرات قياس تُركز على تقييم "الإنصاف الجندري" في أداء الأنظمة، بدلًا من التركيز على الكفاءة التقنية فقط.
يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي لدعم قضايا المرأة وتعزيز المساواة الجندرية من خلال تطوير أنظمة تحليل متقدمة للكشف عن التمييز الجندري في بيئات العمل، إلى جانب دعم السياسات التي تعزز حقوق المرأة في مجالات التعليم، والصحة، والمساواة الاقتصادية والسياسية. كما يمكن الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل فجوات الأجور بين الجنسين عبر أنظمة ذكية تعتمد على بيانات سوق العمل، مما يسهم في تطوير سياسات أكثر إنصافًا لتحقيق العدالة في الأجور وضمان المساواة بين الجنسين.
على التنظيمات اليسارية والنسوية والحقوقية تبني خطاب يعيد صياغة دور التكنولوجيا كأداة تحررية تُعزز المساواة الجندرية، بدلًا من استخدامها في إعادة إنتاج التمييز. يشمل ذلك تحدي الصور النمطية المرتبطة بالأنظمة الصوتية والخدمية، وتطوير مساعدات ذكية تعكس القيم التقدمية مثل العدالة والمساواة، وتعترف بدور المرأة كشريك كامل ومتساو في بناء المجتمع.
إلى جانب ذلك، يجب العمل على إزالة اللغة الذكورية من أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتطوير لغة محايدة جندريًا تسهم في تقويض التمييز الجنسي. يمكن تحقيق ذلك من خلال تصميم خوارزميات تعتمد على بيانات لغوية شاملة ومتنوعة، بحيث لا تعكس القوالب النمطية التقليدية المرتبطة بالرجال والنساء. كما يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تساعد على مراجعة النصوص وتحليل الخطاب لإزالة أي تمييز لغوي أو جندري، مما يسهم في إعادة صياغة اللغة المستخدمة في الأنظمة الذكية لتكون أكثر شمولية وإنصافًا، وتعزز الاحترام والمساواة في التعبير والتواصل. سيسهم ذلك في بناء رؤية بديلة تعيد تعريف العلاقة بين الذكاء الاصطناعي وقضايا العدالة الجندرية، حيث تصبح التكنولوجيا أداة فعالة في التمكين والتحرر، وتسهم في تحقيق المساواة الكاملة للمرأة وتعزيز العدالة الجندرية.
7. الذكاء الاصطناعي كأداة لتحرير حقوق الإنسان
الذكاء يجب أن يُعاد توجيه الذكاء الاصطناعي ليكون أداةً لتحرير واحترام حقوق الإنسان، لا لتقييدها أو انتهاكها. ولتحقيق ذلك، لا بد من اعتماد مبادرات يسارية تقدمية تضمن الشفافية، الرقابة، واستخدام الذكاء الاصطناعي بطرق تعزز العدالة والمساواة، بدلًا من أن يكون وسيلةً بيد الأنظمة الاستبدادية والشركات الكبرى لمراقبة الأفراد وتقليص وقمع الحريات. ينبغي إنشاء أطر قانونية دولية ومحلية صارمة تُجرّم استخدام الذكاء الاصطناعي في انتهاك حقوق الإنسان، سواء من خلال المراقبة، أو استهداف المعارضين والنشطاء، أو فرض الرقابة الرقمية التي تؤدي إلى الاعتقال والاغتيال الرقمي وتقييد حرية التعبير.
يجب تراعي العدالة وحقوق الإنسان الأساسية التي كفلتها المواثيق الدولية. كما يجب إخضاع جميع التطبيقات الأمنية للذكاء الاصطناعي لمراجعة قضائية مستقلة، مع إشراك منظمات المجتمع المدني في تقييم مخاطرها على الحريات، وتشكيل شبكات تضامن عالمية لرصد انتهاكات الذكاء الاصطناعي، ومقاطعة الشركات التي تبيع تقنيات المراقبة للأنظمة الاستبدادية، ووضعها في قوائم سوداء.
لضمان ذلك، لا بد من دعم وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي وبرامج مفتوحة المصدر تُدار من قبل هيئات مستقلة تضم ممثلين عن المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية، بحيث تكون خاضعة لرقابة ديمقراطية تمنع إساءة استخدامها من قبل الحكومات والشركات الاحتكارية والأنظمة الاستبدادية. يمكن لهذه الأنظمة أن تُستخدم لتعزيز حقوق الإنسان من خلال الكشف عن الانتهاكات، ومراقبة أداء الحكومات، وتحليل البيانات لكشف الممارسات القمعية.
تعزيز دور التنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية في مراقبة استخدام الذكاء الاصطناعي أمر بالغ الأهمية، إذ يمكن بناء تحالفات دولية تضغط لإيقاف استغلال هذه التكنولوجيا في تكريس الهيمنة والسيطرة والقمع الرقمي. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعالة لمكافحة الرقابة الرقمية من خلال تطوير تقنيات تشفير البيانات وتأمين الاتصالات لحماية النشطاء والمعارضين، إضافةً إلى رصد أنشطة الحكومات الدكتاتورية وكشف خروقاتها لحقوق الإنسان. كما ينبغي تعزيز الوعي المجتمعي بخطورة الرقابة والسيطرة الرقمية وسبل مواجهتها عبر تشريع قوانين محلية ودولية تمنع انتهاك الخصوصية، وتوفير أدوات تقنية تساعد الأفراد على حماية بياناتهم وضمان حرية التعبير في الفضاء الرقمي.
8. نحو بديل يساري بيئي للذكاء الاصطناعي
من الضروري إعادة توجيه الذكاء الاصطناعي نحو حماية البيئة، وهو هدف لا يمكن تحقيقه بشكل كامل إلا ضمن إطار اشتراكي يعيد تعريف العلاقة بين التكنولوجيا والطبيعة، بعيدًا عن منطق السوق الرأسمالي الذي يتحكم في تطورها اليوم. يجب أن يقوم البديل اليساري للذكاء الاصطناعي على تحرير التكنولوجيا من سيطرة رأس المال، وتحويلها إلى أداة لإدارة الموارد بشكل ديمقراطي واشتراكي، بحيث تُستخدم تطبيقاته لمكافحة التغير المناخي، وتقليل الآثار البيئية السلبية للإنتاج، وتحقيق توزيع عادل للموارد، بدلًا من تعزيز نمط الإنتاج الرأسمالي الاستهلاكي اللامحدود الذي يدمر التوازن البيئي.
في النموذج اليساري، سيكون الذكاء الاصطناعي آليةً مساهمةً في التخطيط الاقتصادي البيئي، حيث تُوظَّف قدراته التحليلية لضبط الإنتاج وفقًا للاحتياجات الفعلية للمجتمع، وليس وفقًا لمنطق السوق والمنافسة الذي يدفع نحو التوسع المستمر. ومن خلال نماذج تقدمية لإدارة الذكاء الاصطناعي، يمكن تحقيق استخدام أكثر كفاءة للموارد، وتقليل الهدر، وتوجيه التطور التكنولوجي نحو حلول بيئية جذرية، مثل تحسين أنظمة الطاقة المتجددة، والإدارة المستدامة للمياه، وخفض الانبعاثات في القطاعات الصناعية. كما يجب حظر استخدام الذكاء الاصطناعي في المشاريع التي تدمر البيئة، وربط ترخيص أي تقنية ذكاء اصطناعي بتقييم تأثيرها البيئي، إلى جانب بناء أنظمة ذكية لمراقبة مدى التزام الشركات بالمعايير البيئية، وضمان فرض رقابة شعبية على سياسات التنمية التكنولوجية لمنع أي استغلال مدمر للموارد.
إن إنهاء هيمنة الدول الكبرى والشركات الاحتكارية على التكنولوجيا لا يعني فقط إعادة توزيع فوائدها، بل أيضًا إعادة تحديد أولوياتها، بحيث تُوجَّه نحو مشاريع بيئية استراتيجية تخدم المجتمع والبيئة، بدلًا من تعزيز المصالح الرأسمالية.
فالتكنولوجيا في شكلها الرأسمالي الحالي لا تحل الأزمة البيئية، بل تعمقها. أما في إطار يساري، فيمكن إعادة توجيهها لتصبح أداة فاعلة لحماية الموارد الطبيعية، وبناء اقتصاد قائم على العدالة البيئية، لا على استغلال البشر أو الطبيعة. تحقيق هذا التحول قد يكون ممكنًا بشكل جزئي داخل النظام الرأسمالي من خلال تشريع قوانين وإجراء إصلاحات تهدف إلى حماية البيئة، غير أن التجربة الحالية تُظهر محدودية هذه الإصلاحات وعدم قدرتها على إحداث تغيير جوهري. ولذلك، فإن الحل الجذري يتطلب تحولًا جذريًا في العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع، بحيث يخضع عموم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لمعايير ديمقراطية وبيئية صارمة تجعل حماية البيئة أولوية قصوى. وهذا يستلزم ايضا تطوير أنظمة ذكية تُقلل الاستخدام المفرط للطاقة، وتعزز الاعتماد الكامل على الطاقة المتجددة، مع ضمان أن تكون التكنولوجيا في خدمة المجتمع والبيئة.
9. الذكاء الاصطناعي لخدمة السلام ونزع السلاح
لا بد من السعي إلى إعادة توجيه الذكاء الاصطناعي ليكون وسيلةً لتعزيز السلام العالمي بدلًا من استخدامه كأداةٍ للحروب والدمار. لتحقيق ذلك، يجب العمل من اجل تبني سياسات دولية تُحرّم تطوير واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي في صناعة الأسلحة، خاصةً تلك التي تعمل بشكل ذاتي دون تدخل بشري مباشر، حيث يشكل ذلك تهديدًا غير مسبوق للسلم العالمي ويكرس هيمنة القوى العسكرية الكبرى. يمكن للحركات اليسارية والتقدمية أن تقود مبادرات عالمية للضغط على الحكومات والمؤسسات الدولية من أجل وضع تشريعات واضحة وصارمة تمنع تطوير الذكاء الاصطناعي لأغراض عسكرية. يمكن لهذه التكنولوجيا أن تُستخدم لتحليل النزاعات القائمة، ودراسة الأسباب الجذرية للحروب، واقتراح حلول جذرية تعالج تلك الأسباب. علاوةً على ذلك، يمكن تعزيز التعاون الدولي من خلال منصات ذكاء اصطناعي تُركز على بناء جسور التواصل بين الشعوب وتعزيز الدبلوماسية والحوار والحلول السلمية.
كما ينبغي استخدام الذكاء الاصطناعي في توثيق جرائم الحرب والانتهاكات الحقوقية، مما يساعد في محاسبة الأنظمة الاستبدادية والدول والشركات الكبرى التي تسعى إلى عسكرة التكنولوجيا وتسخيرها للحروب.
يمكن للحركات والتنظيمات اليسارية، والمنظمات المناهضة للحروب والمدافعة عن السلام، أن تلعب دورًا محوريًا في تعزيز الوعي المجتمعي حول مخاطر عسكرة الذكاء الاصطناعي، من خلال حملات التثقيف، والإعلام التقدمي، والنشاطات الميدانية، لكشف ارتباط المصالح الرأسمالية بالحروب وتسليع الدمار. إن جعل الجماهير طرفًا فاعلًا في النضال ضد عسكرة التكنولوجيا يعني بناء حركة مقاومة عالمية قادرة على الضغط على الحكومات والمؤسسات لإنهاء هذا الاستخدام غير الإنساني والإجرامي للتكنولوجيا بشكل عام، وللذكاء الاصطناعي بشكل خاص.
10. الذكاء الاصطناعي لدعم الديمقراطية والمشاركة الشعبية
من الضروري تحويل الذكاء الاصطناعي من أداةٍ تُساهم في تآكل الديمقراطية النسبية إلى وسيلةٍ لتعزيزها وتطويرها. يجب أن تكون التكنولوجيا عاملًا مساعدًا في تمكين الجماهير، وتعزيز المشاركة السياسية على أسس المساواة، وضمان الشفافية والنزاهة في العملية الديمقراطية. يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير منصات حوار وتصويت إلكترونية آمنة وشفافة تُتيح للمواطنات والمواطنين التعبير عن آرائهم والمشاركة بشكل مباشر وفعّال في اتخاذ القرارات على مختلف المستويات، مما يُعزز الديمقراطية التشاركية ويعيد القوة والسلطة إلى أيدي الجماهير.
كذلك، يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تُحلّل وتكشف الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة تلقائيًا، مما يحمي الجماهير من حملات التضليل التي تهدف إلى تقويض قدرتهم على اتخاذ قرارات مبنية على الحقائق. كما يمكن استخدام هذه الأدوات بشكلٍ واسع وحرّ ضمن مشروع عام يهدف إلى تعزيز الشفافية الإعلامية ومواجهة الهيمنة الإعلامية الاحتكارية. يتطلّب ذلك أيضًا النضال من أجل تشريع قوانين دولية ومحلية واضحة تمنع استخدام الذكاء الاصطناعي في التلاعب بالرأي العام، وتضمن أن تكون المعلومات المقدمة للجمهور صحيحةً وموضوعية، وتعكس الواقع دون أي تحيز يخدم مصالح طبقية أو أيديولوجية محددة.
******************************
رزكار عقراوي يساري مستقل مهتم باليسار والثورة التكنولوجية ويعمل خبيرًا في تطوير الأنظمة والحكومة الإلكترونية.
استنادًا إلى أفكار من كتاب "الذكاء الاصطناعي الرأسمالي: تحديات اليسار والبدائل الممكنة – التكنولوجيا في خدمة رأس المال أم أداة للتحرر؟" للمؤلف رزكار عقراوي – متوفر بعدة لغات
رابط الكتاب مجانًا:
https://play.google.com/store/books/details?id=FsddEQAAQBAJ
https://leanpub.com/ai-ar-socialism
Comments